بسم الله الرحمن الرحيم :
يحكى أنّه كانَ هناكَ في بلادِ بني عبس حمارٌ فاقَ أقرانهُ نباهةً وحكمةْ ، وخصّه اللهُ بنعمةٍ وأيّ نعمةْ ، فقد وهبهُ اللهُ فصاحةً في اللسانْ ، وسحراً من البيانْ ، وذكاءً لا يخفى عن العيانْ ؛ فحصدَ هذا الحمارْ العجَبَ والإبهارْ ، وأصبحَ من نوادرِ الأمصارْ ، وأشدّ إعجازاً من تعاقبِ الليلِِ والنهارْ !
وذاتَ يومٍ جاءَ الحمارُ إلى صاحبهِ يهزُّ ذيلهُ والراسْ ، ووجههُ طافحٌ بالبشرِ والحماسْ ، فقال الحمار لصاحبه : سيّدي الكريم لقد سئمتُ المكوثَ في الحظائرِ مع الأنعامْ ، والرعيَ في الحقولِ كما ترعى الأغنامْ ، وإنّ من حقي أنْ أحققَ بعضَ الأحلامْ ، وأنتَ تعلمُ يا سيّدي أنّ اللهَ خصّني بنعمةِ العقلِ واللسان ومنحني جسماً من أقوى الأجسامْ ، فبَدتْ على وجهِ الرجلِ علاماتُ الاهتمامْ ، فأكملَ الحمارُ حديثهُ : وإنني أرغب يا سيّدي أن ألتحقَ بالعملِ لدى (ديوان الجندِ والعسكرْ) لأخدمَ وطني وأدافعَ عنهُ وأحافظَ على أمنهِ وإنّي بذلك أفخرْ، فسُرّ الرجلُ بحديثِ حمارهِ النجيبْ ، وقال : يا لكَ من حمارٍ وطنيّ مخلصٍ عجيبْ ! ، فأكمل الحمار الحديث قائلاً : ولكنني يا سيّدي أخافُ ألاّ يقبلَ الديوانُ الحميرْ ، فأصبحُ بائساً حسيرْ !
ولكنّ الرجلَ سارعَ بالقولِ : لا تخفْ ياعزيزي فديوانُ الجندِ والعسكرِ لا يخلو من الحميرْ !
فذهب الحمار إلى الديوان منتشياً بعد ما سمعَ كلامَ سيّده …
وسأتركُ المجالَ لحمارنا ليرويَ لنا قصته العجيبة !
يقول الحمار :
ذهبتُ إلى الديوانِ وفوجئتُ بسرعةِ إنهاءِ إجراءاتِ القبول !
وتم تعييني برتبةٍ كبيرةٍ في أحدِ أقاليمِ بني عبس ، وبقيتُ فترةً لا يستهانُ بها فرِحاً بمنصبي الجديدْ ، فكنتُ أصدرُ الأوامرَ كما يفعل السيّدُ ويطيعونها كما يفعلُ العبيدْ ! ، إلا أنني بعد فترة وجيزة أحسستُ أنني أكادُ أنْ أفقدَ (حموريّتي) ، وأتحولُ إلى حجرٍ بلا مشاعر ، فتركتُ ديوانَ الجندِ بلا رجعة !
وتمرّ الأيامُ وأنا أتنقلُ من ديوانٍ إلى آخر ..
وتقلدتُ مناصبَ عدة ، في ديوانِ بيتِ مالِ المسلمين ، وديوانِ العمالِ ، وديوانِ الحجابةِ ، وديوانِ المظالمِ ….… الخ
وكنتُ في كلّ مرةٍ أتركُ العملَ لأسبابٍ يطولُ شرحها !
ثمَّ أشارَ عليّ أحدُ أصدقائي من بني البشرِ بأن ألتحقَ بديوانِ الحِسْبة ، ففكرتُ ملياً وقلبتُ الأمرَ على عدة أوجه ، فقررتُ أن أخوضَ هذه التجربة خاصّة وأن كثيراً من أبناء جلدتي يعملون في هذا الديوان !
فصرفوا لي (مشلحاً) لمّاعْ ، و(سواكاً) طوله ذراعْ !
وألبسوني شماغاً وقيّدوني بالأفضالْ ، وحذروني من ارتداءِ العقالْ !
ثمّ بدأتُ العملَ والنضالْ ، وبالطبع لم تنقطعِ الأموالْ
ولكنني اكتشفتُ أنّ ما يقومون بهِ يخالف ما نشأتُ عليهِ من مبادئ !
وأنّ طريقةَ تفكيرهمْ لا تتفقُ مع طريقةِ تفكيري !
فقررتُ الرحيلَ عنهم !!
يقولُ صاحبُ الحمار :
بعد أن اعتنقَ حماري العزيز كثيراً من التياراتِ والأفكارِ المنتشرةِ في بلادِ بني عبسْ ، لم تعجبه هذه التيارات ولم تستطعْ أن تغيّرَ ما تربى عليهِ بالأمسْ !
فعانى كثيراً وهامَ على وجههِ في الصحراء وهو يردّد :
الحمـدُ للهِ أننـا حميـرُ
طعامنا الأعلافُ والشعيرُ
وعيشةُ الحمارِ في الفـلاةِ
مبادئٌ ، أخوّةٌ ، وخيْرُ !
حياتنا يسودها التراحـمْ
تسودها الأخلاقُ والضميرُ