على الرصيف الاخر
السلام عليكم :
كتبت ذات يوم...
عن الابتسامة التي تلد كل يوم مع الحياة...
عن هموم الدنيا التي تشغل البال...
عن النجوم التي ترحل معها سفن الحياة...
عن الشمس التي تنحني للأشجار...
عن أوراق الشجر التي تندثر من الأغصان و ترتمي بين أحضان الرصيف...
كتبت عن كل شيء... عن السماء الزرقاء... عن الغيوم بيضاء...و الطيور المغردة
و عن كلمة حب.
و ألان اكتب عن سؤال نشب فوق الأرض...
هل الدمعة ماتت براءتها في الأحداق...؟
اصرخ فتهتز أركان المدينة لصرختي...
كان ممددا على الرصيف الآخر, المقابل للمقهى و كانت الساعة العاشرة و النصف
لمحته فتى يلبس سروال اسود مليء ببقع الزيت الخاثر و بقايا علك ابيض, و هو يتوسد ذراعه الصغير مستغرق في نوم العميق.
و الشمس تتدحرج على جسده, و يده الأخرى تعانق حافة الرصيف, ربما ظن نفسه انه
يعانق وجه أمه... الغائبة.
تدلت فوقه عجوز فانحنت أمامه و تركة على جبينه الملائكي قبلة كلها حنان خالص
و لكن سرعان ما رحل ذلك الحنان الأنثوي مع ظل غمامة رطبة
تقلب الطفل في رقدته البائسة ذات اليمين و ذات الشمال و هو ملحف بأحلامه.
فجأة و على صوت القطار قام الطفل و تكورا على نفسه في انكسار و هو يحتضن
أنفاسه صانعا بها من شفتيه المبتسمة ابتسامة حلمهما و آهات التي كتمتها الدموع
فكانت تنحدر من عينيه و هي تنتشر على كامل وجهه لتدنسه بغيض الحزن
إني أرى الدموع تغرق منخريه الصغيرين المرسومين رسما إلهيا
كما أرى دموعا أخرى في انحدار منزلق نحو فمه لتتسلى بين أروقة شفتيه النائمتين
في ابتسامة حلمه.
و بعد أن دنسة الدموع وجهه و تسللت إلى شفتيه و سحبت ابتسامة من وجهه البريء
راحت عيونه تتزاحم نحوى جسمه المكور الصغير بنظرات فضول.
نظرات تروح و أخرى تجيء و لا تمنحه إلا النظرات العابرة الجافة
ساعات مضت...
الشمس أصبحت قريبة من الأرض... الصداع تمرد في دماغي و ثار على ذاكرتي.
الرصيف يصرخ كالرجل الذي فقد عقله,
ألان كل العيون نمت على قضية حتى المواعيد أجلت و الأقلام جفت فأصبح صعلوك هو سيد الأفكار.
صرخة الرصيف:
ضاعت كل قضايا بين صمت الملوك
بين أحلام الورود و الأزهار... ضاعت
بين نجوم السماء و القمر... ضاعت
بين قطرات الندى و قصائد المطر... ضاعت
بين سراب الطيور... ضاعت
بين أغصان الزيتون و مواويل الحب... ضاعت
آه أيتها المدينة...
اقتربت منه و أنا احمل له رغيف ساخن و قطعة جبن فرفع عيناه التي أمست
كالمستنقع اجتمع فيه كل المتعفنات حتى عقله أصبح مشرد بين يده
تظل الجثة الهزيلة على الرصيف و يطاردها حلمه و يحاول الالتحاق به عبر عناقيد
الضياء انه يعانق بأطرافه كل شيء جميل في جسده ليظم حلمه الصغير إلى صدره
ويطير به إلى أي مكان بألوان القزح... المعطرة بعالم بريء محصن...
يسكنه إلا الأطفال الصغار أو الذين مازالوا يحملون براءة الأطفال في قلوبهم
تعب من مطاردة حلمه فسمح لجسمه المتعب الهزيل أن يمتد على الرصيف
مرة ثانية و هو يتوسد ما في مخيلته الخصبة العذراء
استحيت من وقوفي على الرصيف فالتفت حولي... فحملتني خطواتي فارتفعت و ارتفعت... و أنا في وسط الزحام و بداخلي إحساس مغتال و يزف صمت جبني في أوردة الروح.
نزلت في سحابة و عندما هبطت كانت أوراق الأشجار تسقط عليا و هي تردد
نغما حزن لأني تركته معتصما بزوايا الرصيف
تمزقت كل أشرعتي و كبر في صدري شيء يشبه ألوية النصر و اسمع في قلبي اذبار خيول و وقع حوافر فأدركت أن ما يقوله الآخرون شيء من الجنون...
أن الحياة أكذوبة... و الحب خيانة... و الزمن فيلسوف مجنون يمشي فوق جماجم الأيام
و فجأة صفقت في خيالي حمامة جريحة و تنفس في وجه نداء لم أستطيع تجاهله,
ربما كان نداء الطفل الذي ينام على الرصيف.
وقفت مثل الجملة في هامش... وقفت مثل الشخصية السياسية... وقفت مثل شخصية
ثانوية في فيلم سينمائي... وقفت و أنا على الرصيف انظر إليه.
وقفت على الرصيف...
مكفكف غروري بما املك و حاولت أن لا انفخ فمي لأني لا أستطيع أن اغلب الرياح
ثم نظرة إلى من حاولي الذين جعلوهم يعيشون بدون ضمائر, عواطفهم انتحرت على جدران الصمت و الوحشية و الأنانية و الرغبة الجارفة في الانتقام.
كما لو انه أخر مشهد لمثل هؤلاء قبل هذا المشهد الموجود على الرصيف
هو مجنون هم لنوم تحت رحمة الصقيع ترى أمامك شابين يسخران منه و يبحثان عن
مكيدة لفزعه من ذلك الحلم الموجود في كاس أحزنه.
رد المجنون عنهم بصوت يشبه الأنين...
أنا جائع أريد أن أكل... أنا لم أدق خبز ملة... أنا مريض أريد دواء... من أنا.
فتعالت أصوات الشابين بقهقهات هستيرية بحجم عقولهم ترك ذلك المشهد حفرا عميق في ذاكرتي مثل الحفر الممتدة في الشوارع الرئيسية للمدينة دون تفكير في ترميمها.
مر هذا الشريط على عجل و بدون مقدمات توارت أمواج الحزن على دلك الرصيف
وهي ترسم في جدران المدينة عيونا حمراء.
حرقها الدمع و أطفا بريقها اكتساح التشرد و اليتم و هي تجرف معها كل الأحلام المحترقة و تغرق في طريقها كل الآمال المفقودة وراء ستار النفس المكبلة بخيوط الموت الممتدة على كامل الرصيف, خيمة الحزن الذي أقامها هذا الطفل بالهم الطويل و بكؤوس المرارة.
الشمس بدأت في احتراق فأصبحت لها أسهم كثيرة و ارصيدة كبيرة, ليتها ترحل دون وداع... احترقي... احترقي ودعيني ارحل من هذا المكان, احترقي في هذه العشية الحارة كي أرى لهيبك.
وقفت على الرصيف القابل لغروب الشمس و جمعت كل حقائب الآلام...
ورزم البؤس... و دفاتر الذكريات الحزينة... و أقلامي السوداء... و أثار الوداع تحترق في صدري ثم أعلنت ساعاتها عن ذروة جنوني...
مشطت الرصيف كله حتى انتشرت منه رائحة غريبة و سكنني هوس خفي, تحركت في نفسي مخاوف و عذابات لا افهمها و أحاسيس عمياء لا افقهها ثم أخذتني خطواتي إلى مكان الموجود به الطفل الذي جعله غرفة لنومه...و قصر تسبح أجنحته فيه.
سالت المدينة الجريحة عن خيمة الحزن الذي يبنيها كل طفل فوق الرصيف
فأرتني حزنا مرسوما في مرايا السماء كلمات مؤثرة لابن الحادية عشر سنة راح البريء يتلفظ بها بعفوية تعبر عن معانات جسمه و ما يقاسيه.
أنا رامي... أعيش في وسط سبع إخوة جلهم صغار... أمي... أمي توفيت و هي تضع أخر إخوتي... أبي شيخ تعدى السبعين من العمر كونه لا يستطيع أن يعمل و رجل واعر
أرغمني على ترك مدرستي... معلمتي... حتى أصدقائي لكي اعمل أي عمل كان...
اخرج معه في الصباح الباكر و يجعلني أكمل نومي على الرصيف لاجني له بعض النقود علها تغنيه من الفقر المديد.
تهتز دموع البريء مدرارا لكنه سرعان ما يمسحها بيده المتسخة و هو يقول ما لا يعلم
دائما البس ثياب الآخرين القديمة... لا أكل... حتى في برد الشتاء اخرج لأتسول... فانا لا اعرف الفرح و معنى الفرح و دفئه.
أصدقائي يذهبون إلى المدرسة و أنا أمد يدي إلى آخرين من اجل دينار.
يتوقف الطفل عن الحديث... يسود الرصيف صمت يلفظ الطفل أنفاسه بين الكوابيس
كانت أخر كلمات لفظها و فضل بعدها أن يظل صامت و ينصرف, انه أراد أن ينتسب إلى عالم حديثه الصمت.
انه من أبناء الصقيع...
يحاول أن يقتل الفقر بتمرده...
يحاول أن يرفع التحدي بثوب من أشواك الأسى...
يحاول أن يسير في هدوء بأقدام عارية...
يحاول أن يناشد في صمته همس أفكاره...
يحاول أن يشق الدروب بفوانيس تشتعل في قلبه...
يحاول احتراق ساعات... و هو يندفع نحو الموت فرار من الحياة.
صرخة اصرخها في جوف الليل و في هذا النهار الطويل
صرخة اصرخها لكي يكبل الفجر أحزانه
جرفتني دموع رامي إلى مكان خال من الناس, و من شدة التعب توسدت صخور باردة
و أنا أحصي دقات الساعة و أترقب مجيء الصباح.
رحلت بعد ذلك من ذلك الرصيف طالب النسيان إذا بي أجد نفسي في بحيرة من المياه الباردة فضحكت بكل مرارة و قلت في نفسي لم ينقصني سوى أن اكتب شهادة وفاة لي.
على الرصيف الآخر.